فصل: الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 91 ‏)‏

‏{‏آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين‏}‏

قيل‏:‏ هو من قول الله تعالى‏.‏ وميل‏:‏ هو من قول جبريل‏.‏ وقيل‏:‏ ميكائيل، صلوات الله عليهما، أو غيرهما من الملائكة له صلوات الله عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول فرعون في نفسه، ولم يكن ثم قول اللسان بل وقع ذلك في قلبه فقال في نفسه ما قال‏:‏ حيث لم تنفعه الندامة؛ ونظيره‏.‏ ‏}‏إنما نطعمكم لوجه الله‏}‏الإنسان‏:‏ 9‏]‏ أثنى عليهم الرب بما في ضميرهم لا أنهم قالوا ذلك بلفظهم، والكلام الحقيقي كلام القلب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

‏{‏فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فاليوم ننجيك ببدنك‏}‏ أي نلقيك على نجوة من الأرض‏.‏ وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا‏:‏ هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض، أي مكان مرتفع من البحر حتى شاهدوه قال أوس بن حجر يصف مطرا‏:‏

فمن بعقوته كمن بنجوته والمستكن كمن يمشي بقرواح

وقرأ اليزيدي وابن السميقع ‏}‏ننحيك‏}‏ بالحاء من التنحية، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ أي تكون على ناحية من البحر‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ فرمي به على ساحل البحر حتى رآه بنو إسرائيل، وكان قصيرا أحمر كأنه ثور‏.‏ وحكى علقمة عن عبدالله أنه قرأ ‏}‏بندائك‏}‏ من النداء‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ وليس بمخالف لهجاء مصحفنا، إذ سبيله أن يكتب بياء وكاف بعد الدال؛ لأن الألف تسقط من ندائك في ترتيب خط المصحف كما سقط من الظلمات والسماوات، فإذا وقع بها الحذف استوى هجاء بدنك وندائك، على أن هذه القراءة مرغوب عنها لشذوذها وخلافها ما عليه عامة المسلمين؛ والقراءة سنة يأخذها آخر عن أول، وفي معناها نقص عن تأويل قراءتنا، إذ ليس فيها للدرع ذكره الذي تتابعت الآثار بأن بني إسرائيل اختلفوا في غرق فرعون، وسألوا الله تعالى، أن يريهم إياه غريقا فألقوه على نجوة من الأرض ببدنه وهو درعه التي يلبسها في الحروب‏.‏ قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي‏:‏ وكانت درعه من لؤلؤ منظوم‏.‏ وقيل‏:‏ من الذهب وكان يعرف بها‏.‏ وقيل‏:‏ من حديد؛ قاله أبو صخر‏:‏ والبدن الدرع القصيرة‏.‏ وأنشد أبو عبيدة للأعشى‏:‏

وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن

وأنشد أيضا لعمرو بن معد يكرب‏:‏

ومضى نساؤهم بكل مفاضة جدلاء سابغة وبالأبدان

وقال كعب بن مالك‏:‏

ترى الأبدان فيها مسبغات على الأبطال واليلب الحصينا

أراد بالأبدان الدروع واليلب الدروع اليمانية، كانت تتخذ من الجلود يخرز بعضها إلى بعض؛ وهو اسم جنس، الواحد يلبة‏.‏ قال عمرو بن كلثوم‏:‏

علينا البيض واليلب اليماني وأسياف يقمن وينحنينا

وقيل ‏}‏ببدنك‏}‏ بجسد لا روح فيه؛ قاله مجاهد‏.‏ قال الأخفش‏:‏ وأما قول من قال بدرعك فليس بشيء‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ لأنهم لما ضرعوا إلى الله يسألونه مشاهدة فرعون غريقا أبرزه لهم فرأوا جسدا لا روج فيه، فلما رأته بنو إسرائيل قالوا نعم‏!‏ يا موسى هذا فرعون وقد غرق؛ فخرج الشك من قلوبهم وابتلع البحر فرعون كما كان‏.‏ فعلى هذا ‏}‏ننجيك ببدنك‏}‏ احتمل معنيين‏:‏ أحدهما - نلقيك على نجوة من الأرض‏.‏ والثاني - نظهر جسدك الذي لا روج فيه‏.‏ والقراءة الشاذة ‏}‏بندائك‏}‏ يرجع معناها إلى معنى قراءة الجماعة، لأن النداء يفسر تفسيرين، أحدهما - نلقيك بصياحك بكلمة التوبة، وقولك بعد أن أغلق بابها ومضى وقت قبولها‏{‏آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏يونس‏:‏ 90‏]‏ على موضع رفيع‏.‏ والآخر - فاليوم نعزلك عن غامض البحر بندائك لما قلت أنا ربكم الأعلى؛ فكانت تنجيته بالبدن معاقبة من رب العالمين له على ما فرط من كفره الذي منه نداؤه الذي افترى فيه وبهت، وادعى القدرة والأمر الذي يعلم أنه كاذب فيه وعاجز عنه وغير مستحق له‏.‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ فقراءتنا تتضمن ما في القراءة الشاذة من المعاني وتزيد عليها‏.‏

قوله تعالى‏{‏لتكون لمن خلفك آية‏}‏ أي لبني إسرائيل ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر‏.‏ ‏}‏وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون‏}‏ أي معرضون عن تأمل آياتنا والتفكر فيها‏.‏ وقرئ ‏}‏لمن خلفك‏}‏ ‏(‏بفتح اللام‏)‏؛ أي لمن بقي بعدك يخلفك في أرضك‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب ‏}‏لمن خلقك‏}‏ بالقاف؛ أي تكون آية لخالقك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

‏{‏ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق‏}‏ أي منزل صدق محمود مختار، يعني مصر‏.‏ وقيل‏:‏ الأردن وفلسطين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هي مصر والشام‏.‏ ‏}‏ورزقناهم من الطيبات‏}‏ أي من الثمار وغيرها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعني قريظة والنضير وأهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل؛ فإنهم كانوا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وينتظرون خروجه، ثم لما خرج حسدوه؛ ولهذا قال‏{‏فما اختلفوا‏}‏ أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏حتى جاءهم العلم‏}‏ أي القرآن، ومحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والعلم بمعنى المعلوم؛ لأنهم كانوا يعلمونه قبل خروجه؛ قال ابن جرير الطبري‏.‏ ‏}‏إن ربك يقضي بينهم‏}‏ أي يحكم بينهم ويفصل‏.‏ ‏}‏يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ في الدنيا، فيثيب الطائع ويعاقب العاصي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏:‏ 95 ‏)‏

‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، أي لست في شك ولكن غيرك شك‏.‏ قال أبو عمر محمد بن عبدالواحد الزاهد‏:‏ سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان‏:‏ معنى ‏}‏فإن كنت في شك‏}‏ أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ‏}‏فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك‏}‏ أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فأسأل من أسلم من اليهود، يعني عبدالله بن سلام وأمثاله؛ لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب؛ فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم، هل يبعث الله برسول من بعد موسى‏.‏ وقال القتبي‏:‏ هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم، بل كان في شك‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره، والمعنى‏:‏ لو كنت يلحقك الشك فيه فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك‏.‏ وقيل‏:‏ الشك ضيق الصدر؛ أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر، واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم‏.‏ والشك في اللغة أصله الضيق؛ يقال‏:‏ شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء‏.‏ وكذلك السفرة تمد علائقها حتى تنقبض؛ فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ الفاء مع حروف الشرط لا توجب‏.‏ الفعل ولا تثبته، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏(‏والله لا أشك - ثم استأنف الكلام فقال - لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين‏)‏ أي الشاكين المرتابين‏.‏ ‏}‏ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين‏}‏ والخطاب في هاتين الآيتين للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 96 ‏:‏ 97 ‏)‏

‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون‏}‏ تقدم القول فيه في هذه السورة‏.‏ قال قتادة‏:‏ أي الذين حق عليهم غضب الله وسخطه بمعصيتهم لا يؤمنون‏.‏ ‏}‏ولو جاءتهم كل آية‏}‏ أنث ‏}‏كلا‏}‏ على المعنى؛ أي ولو جاءتهم الآيات‏.‏ ‏}‏حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ فحينئذ يؤمنون ولا ينفعهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلولا كانت قرية آمنت‏}‏ قال الأخفش والكسائي‏:‏ أي فهلا‏.‏ وفي مصحف أبي وابن مسعود ‏}‏فهلا‏}‏ وأصل لولا في الكلام التحضيض أو الدلالة على منع أمر لوجود غيره‏.‏ ومفهوم من معنى الآية نفي إيمان أهل القرى ثم استثنى قوم يونس؛ فهو بحسب اللفظ استئناء منقطع، وهو بحسب المعنى متصل؛ لأن تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس‏.‏ والنصب في ‏}‏قوم‏}‏ هو الوجه، وكذلك أدخله سيبويه في ‏(‏باب مالا يكون إلا منصوبا‏)‏‏.‏ قال النحاس‏{‏إلا قوم يونس‏}‏ نصب لأنه استئناء ليس من الأول، أي لكن قوم يونس؛ هذا قول الكسائي والأخفش والفراء‏.‏ ويجوز‏.‏ ‏}‏إلا قوم يونس‏}‏ بالرفع، ومن أحسن ما قيل في الرفع ما قال أبو إسحاق الزجاج قال‏:‏ يكون المعنى غير قوم يونس، فلما جاء بإلا أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غير؛ كما قال‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين‏:‏ أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا؛ فقيل‏:‏ إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم؛ فقيل له‏:‏ أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا‏:‏ هو رجل لا يكذب فارقبوه فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك؛ فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده؛ والعذاب منهم فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل‏.‏ وروي على ميل‏.‏ وعن ابن عباس أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب‏.‏ وقال الطبري‏:‏ خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب؛ وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان‏.‏

قلت‏:‏ قول الزجاج حسن؛ فان المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك‏.‏ ويعضد هذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏)‏‏.‏ والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روي معنى ما قلناه عن ابن مسعود، أن يونس لما وعدهم العذاب إلى ثلاثة أيام خرج عنهم فأصبحوا فلم يجدوه فتابوا وفرقوا بين الأمهات والأولاد؛ وهذا يدل على أن توبتهم قبل رؤية علامة العذاب‏.‏ وسيأتي مسندا مبينا في سورة ‏}‏والصافات‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ ويكون معنى ‏}‏كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏ أي العذاب الذي وعدهم به يونس أنه ينزل بهم، لا أنهم رأوه عيانا ولا مخايلة؛ وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض ولا خصوص، والله أعلم‏.‏ وبالجملة فكان أهل نينوى في سابق العلم من السعداء‏.‏ وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء ليرد القدر‏.‏ وذلك أن الله تعالى يقول‏{‏إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا‏}‏‏.‏ قال رضي الله عنه‏:‏ وذلك يوم عاشوراء‏.‏ ‏}‏ومتعناهم إلى حين‏}‏ قيل إلى أجلهم، قال السدي وقيل‏:‏ إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار؛ قاله ابن عباس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا‏}‏ أي لاضطرهم إليه‏.‏ ‏}‏كلهم‏}‏ تأكيد لـ ‏}‏من‏}‏‏.‏ ‏}‏جميعا‏}‏ عند سيبويه نصب على الحال‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ جاء بقول جميعا بعد كل تأكيدا؛ كقوله‏{‏لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏النحل‏:‏ 51‏]‏

قوله تعالى‏{‏أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان جميع الناس؛ فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبقت له الشقاوة في الذكر الأول‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالناس هنا أبو طالب؛ وهو عن ابن عباس أيضا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ نفي؛ أي ما ينبغي أن تؤمن نفس إلا بقضائه وقدره ومشيئته وإرادته‏.‏ ‏}‏ويجعل الرجس‏}‏ وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل ‏}‏ونجعل‏}‏ بالنون على التعظيم‏.‏ والرجس‏:‏ العذاب؛ بضم الراء وكسرها لغتان‏.‏ ‏}‏على الذين لا يعقلون‏}‏ أمر الله عز وجل ونهيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل انظروا ماذا في السماوات والأرض‏}‏ أمر للكفار بالاعتبار والنظر في المصنوعات الدالة على الصانع والقادر على الكمال‏.‏ وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع مستوفى‏.‏ ‏}‏وما تغني‏}‏ ‏}‏ما‏}‏ نفي؛ أي ولن تغني‏.‏ وقيل‏:‏ استفهامية؛ التقدير أي شيء تغني‏.‏ ‏}‏الآيات‏}‏ أي الدلالات‏.‏ ‏}‏والنذر‏}‏ أي الرسل، جمع نذير، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏عن قوم لا يؤمنون‏}‏ أي عمن سبق له في علم الله أنه لا يؤمن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم‏}‏ الأيام هنا بمعنى الوقائع؛ يقال‏:‏ فلان عالم بأيام العرب أي بوقائعهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ يعني وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم‏.‏ والعرب تسمي العذاب أياما والنعم أياما؛ كقوله تعالى‏{‏وذكره بأيام الله‏}‏‏.‏ وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام‏.‏ ‏}‏فانتظروا‏}‏ أي تربصوا؛ وهذا تهديد ووعيد‏.‏ ‏}‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ أي المتربصين لموعد وربي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا‏}‏ أي من سنتنا إذا أنزلنا بقوم عذابا أخرجنا من بينهم الرسل والمؤمنين، و‏}‏ثم‏}‏ معناه ثم اعلموا أنا ننجي رسلنا‏.‏ ‏}‏كذلك حقا علينا‏}‏ أي واجبا علينا؛ لأنه أخبر ولا خلف في خبره‏.‏ وقرأ يعقوب‏.‏ ‏}‏ثم ننجي‏}‏ مخففا‏.‏ وقرأ الكسائي وحفص ويعقوب‏.‏ ‏}‏ننجي المؤمنين‏}‏ مخففا؛ وشدد الباقون؛ وهما لغتان فصيحتان‏:‏ أنجى ينجي إنجاء، ونجى ينجي تنجية بمعنى واحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أيها الناس‏}‏ يريد كفار مكة‏.‏ ‏}‏إن كنتم في شك من ديني‏}‏ أي في ريب من دين الإسلام الذي أدعوكم إليه‏.‏ ‏}‏فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله‏}‏ من الأوثان التي لا تعقل‏.‏ ‏}‏ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم‏}‏ أي يميتكم ويقبض أرواحكم‏.‏ ‏}‏وأمرت أن أكون من المؤمنين

أي المصدقين بآيات ربهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏:‏ 106 ‏)‏

‏{‏وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأن أقم وجهك للدين‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ عطف على ‏}‏أن أكون‏}‏ أي قيل لي كن من المؤمنين وأقم وجهك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ عملك، وقيل‏:‏ نفسك؛ أي استقم بإقبالك على ما أمرت به من الدين‏.‏ ‏}‏حنيفا‏}‏ أي قويما به مائلا عن كل دين‏.‏ قال حمزة بن عبدالمطلب ‏(‏رضي الله عنه‏)‏‏:‏

حمدت الله حين هدى فؤادي من الإشراك للدين الحنيف

وقد مضى في ‏}‏الأنعام‏}‏ اشتقاقه والحمد لله‏.‏ ‏}‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ أي وقيل لي ولا تشرك؛ والخطاب له والمراد غيره؛ وكذلك قوله‏{‏ولا تدع‏}‏ أي لا تعبد‏.‏ ‏}‏من دون الله ما لا ينفعك‏}‏ إن عبدته‏.‏ ‏}‏ولا يضرك‏}‏ إن عصيته‏.‏ ‏}‏فإن فعلت‏}‏ أي عبدت غير الله‏.‏ ‏}‏فإنك إذا من الظالمين‏}‏ أي الواضعين العبادة في غير موضعها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن يمسسك الله بضر‏}‏ أي يصيبك به‏.‏ ‏}‏فلا كاشف له إلا هو‏}‏ أي لا دافع ‏}‏له إلا هو وإن يردك بخير‏}‏ أي يصبك برخاء ونعمة ‏}‏فلا راد لفضله يصيب به‏}‏ أي بكل ما أراد من الخير والشر‏.‏ ‏}‏من يشاء من عباده وهو الغفور‏}‏ لذنوب عباده وخطاياهم ‏}‏الرحيم‏}‏ بأوليائه في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق‏}‏ أي القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏فمن اهتدى‏}‏ أي صدق محمدا وآمن بما جاء به‏.‏ ‏}‏فإنما يهتدي لنفسه‏}‏ أي لخلاص نفسه‏.‏ ‏}‏ومن ضل‏}‏ أي ترك الرسول والقرآن واتبع الأصنام والأوثان‏.‏ ‏}‏فإنما يضل عليها‏}‏ أي وبال ذلك على نفسه‏.‏ ‏}‏وما أنا عليكم بوكيل‏}‏ أي بحفيظ أحفظ أعمالكم إنما أنا رسول‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نسختها آية السيف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتبع ما يوحى إليك واصبر‏}‏ قيل‏:‏ نسخ بآية القتال‏:‏ وقيل‏:‏ ليس منسوخا؛ ومعناه اصبر على الطاعة وعن المعصية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما نزلت جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار ولم يجمع معهم غيرهم فقال‏:‏ ‏(‏إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‏)‏ وعن أنس بمثل ذلك؛ ثم قال أنس‏:‏ فلم يصبروا فأمرهم بالصبر كما أمره الله تعالى؛ وفي ذلك يقول عبدالرحمن بن حسان‏:‏

ألا أبلغ معاوية بن حرب أمير المؤمنين نثا كلامي

بأنا صابرون ومنظروكم إلى يوم التغابن والخصام

‏{‏حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين‏}‏ ابتداء وخبر؛ لأنه عز وجل لا يحكم إلا بالحق